الذكاء الاصطناعي والكاتب البشري: هل انتهت المعركة أم بدأت للتو؟

في وقت ليس ببعيد، حين كانت الكلمات تخط على ورق بحبر يروي قصصًا من عمق الروح وتنبض الكلمات بعبق الإنسانية، تسلل همس خافت إلى أورقة الإبداع، همس عن الآلات التي أطلقنا عليها اسم "الذكاء الاصطناعي"، ستنهي حقبة الكاتب البشري؟ هل سيتحول القلم، رفيق الدرب ومرآة الروح، إلى مجرد قطعة أثرية في متحف التاريخ، وتصبح الكلمات مجرد خوارزميات باردة، خالية من وهج العاطفة والتجربة الإنسانية ؟
هذا السؤال الوجودي الذي يتردد في أدمغة الكُتاب وفي أورقة الأدب والفكر، هو ليس مجرد هاجس عابر بل حدود فاصلة بين المحاكاة والابتكار الأصيل.
ففي عصر الثورة الرقمية، حيث تتسارع وتيرة التطور التكنولوجي، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة لا تستهان بها، قادرة على إعادة تشكيل مفاهيمنا عن الفن، الكتابة، وحتى الوعي.
كيف يكتب الذكاء الاصطناعي؟ تشريح العقل الرقمي
لنفهم التحدي الجديد، دعونا نقترب أكثر من "العقل الرقمي" لمعرفة قدرته المذهلة في توليد النصوص. إن الكاتب الآلي، أو ما يُعرف بنماذج اللغة الكبيرة (Large Language Models - LLMs)، ليس سوى تجسيدٍ لقفزةٍ نوعيةٍ في مجال الذكاء الاصطناعي، تعتمد على مبادئ متقدمة في التعلم العميق (Deep Learning)، ومعالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing - NLP).[1]
تخيلوا معي مكتبة ضخمة مُحملة بملايين من الكتب، إذا تعمقت أكثر ستجد تريليونات من الكلمات والعبارات من كل لغة وثقافة وعصر؛ كأنها ذاكرة بشرية متجسدة في الكلمات، استغرق الكاتب البشري سنوات في القراءة والتحليل والتجربة لصقل مهارته. هذه هي البيانات التي تُغذى بها النماذج اللغة الكبيرة خلال عملية تدريبها، ويطلق على هذه العملية باسم (Corpus) التي تشمل الكتب، المقالات، صفحات الويب، وحتى المحادثات اليومية.
تتمكن هذه النماذج الآلية من استيعاب الأنماط اللغوية، القواعد النحوية، وحتى الفروق الدقيقة في الأسلوب والمعنى، من خلال عملية يطلق عليها اسم التعلم غير المُراقب (Unsupervised Learning).[2]
والقلب النابض لهذه النماذج هو بُنية "المُحول" (Transformer Architecture)، التي أحدثت ثورة في مجال معالجة اللغة الطبيعية، فبدلًا من معالجة الكلمات بشكل تسلسلي كما كانت تفعل النماذج السابقة، تستطيع المُحولات معالجة أجزاء كبيرة من النص في وقت واحد، مع إعطاء اهتمام خاص للعلاقات بين الكلمات البعيدة عن بعضها البعض في الجملة. هذه الآلية معروفة باسم "آلية الانتباه" (Attention Mechanism)، تسمح للنموذج بفهم السياق الشامل للنص، مما يمكنه من توليد نصوص أكثر تماسكًا وذات صلة.[3]
عندما يتلقى الذكاء الاصطناعي "توجيهًا" (Prompt) من المستخدم، فإنه لا يقوم بالبحث عن إجابة جاهزة، بل يبدأ في توليد النص كلمة بكلمة، بناء على الاحتمالات الإحصائية المستخلصة من بيانات التدريب. إنه أشبه بفنان يمتلك كل الألوان والفرش، لكنه يرسم بناء على ما رآه ودرسه من أعمال فنية سابقة، لا بناء على إلهام شخصي أو تجربة ذاتية فريدة، وهذه العملية التوليدية (Generative Process) تمكنه من إنتاج مقالات كاملة، قصص قصيرة، أو حتى قصائد شعرية في غضون ثوان، مع الحفاظ على قواعد اللغة والإملاء بدقة متناهية.
هل خسر الكاتب البشري المعركة ؟
قد تضن أن الإجابةَ واضحة، وأن الكاتب الآلي قد تفوق بلا منازع. فسرعته وكفاءته لا تُضاهى. وقدرته على إنتاج مقالات تبدو مثالية تفوق قدرة أي كاتب عادي.
ولكن، دعني أغيرُ وجهة نظرك قليلا، تخيل لوحة فنية رسمتها آلة متقنة التفاصيل، مثالية الألوان، أما الثانية فقد لا تبلغ نفس الدقة لكنها تحمل في طياتها قصة، شعورًا، لمسةً يتجاوز حدود النظر. هذا هو الفارق الجوهري بين إبداع الآلة وإبداع الإنسان.
إن النماذج التي ينتجها الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وغيرُها تفتقر إلى البراعة واللمسة الشخصية التي يقدمها الكاتب البشري.
فالكاتب البشري يمتلك القدرة على توصيل المشاعر للقارئ بعمق، وعلى نسج محتوى يتدفق بانسيابية وتسلسل فطري طبيعي، بينما الكاتب الآلي ينتج نصًا متكاملًا من نقطة لأخرى بدون سلاسة وانسيابية في النص فينقصه عنصر التشويق والتماسك، فقد يكرر العبارات والأفكار دون قصد في محاولة جعل النص مرتبًا، لكنه يفقد ذلك العمق والتفرد في كتاباته.
إي أنه يحاكي اللغة البشرية لكنه لا يستطيع تقديم حكايات شخصية أو أداء بشري متكامل أو فهم عميق للمواضيع المعقدة. وهذا يقودنا إلى محتوى سليم من الناحية التقنية، لكنه يبدو سطحيًا منفصلًا عن التجربة الانسانية الحقيقية.
وهنا يكمُن جوهر الإبداع البشري: قدرته على تجاوز مجرد تجميع البيانات والمعلومات؛ فالإبداع البشري ليس مجرد عملية حسابية، بل هو نِتاج تفاعل معقد بين العقل الواعي واللاواعي، بين المنطق والعاطفة، بين التجربة الشخصية والتأمل الفلسفي. إن الدماغ البشري، بفضل مرونته العصبية (Neural Plasticity) وقدرته على إقامة روابط غير متوقعة بين الأفكار والمعلومات المتباعدة، فهو المصدر الحقيقي للابتكار.
التعاون لا المنافسة: مستقبل الكتابة في عصر الذكاء الاصطناعي
إذًا، كيف للكاتب أن يبني نموذج كتابة متكامل في هذا العصر الجديد ؟
الإجابة تكمُن في التعاون لا الاعتمادية أو المنافسة. فالذكاء الاصطناعي ليس عدوًا، بل هو حليف قوي، مُعزز لقدرات الكُتاب. تخيلوا انفسكم قادة أوركسترا، والذكاء الاصطناعي هو الآلات الموسيقية المتطورة التي تحت تصرفكم يمكنكم الجمع بين سرعة وكفاءة الآلات مع إبداعكم و تأثيركم الإنساني الفريد. ولبناء النموذج المتكامل، هناك مجموعة من الأدوات التي يمكن أن تكون عونًا حقيقيًا للكاتب:
الأدوات مثل: (ChatGPT) أو(Jasper) يمكن أن تولد لكم الإلهام الأولي، وتقترح عليكم مخططات للفصول والأقسام بناءً على اهتماماتكم. إنها تساعد على تقديم زوايا جديدة، وتعزز إبداعكم، وتوفر عليكم عناء البحث الأولي.
ويمكنها جمع المصادر والبيانات الموثوقة بسرعة، باستخدام أدوات مثل(Google Scholar) فهو المدعوم بالذكاء الاصطناعي، مما يساعد على ربط أحدث الدراسات بنصوصكم.
ويمكنكم صياغة المسودات الأولية، واقتراح تحسينات لنصوصكم باستخدام أدوات مثل(Writesonic) أو(Sudowrite)، التي تسرع في إنتاج النصوص وتحافظ على أسلوب الكتابة.
وهناك أدوات مثل(Hemingway Editor) لتحسين الأسلوب والوضوح، وأدوات تحسين محركات البحث (SEO) مثل (SEMrush) و(Ahrefs) التي تحلل الكلمات المفتاحية وتقترح عناوين وأساليب جذب، تمنح نصوصكم انتشارًا أوسع.
في نهاية المطاف، لن يحل الذكاء الاصطناعي محل الكاتب البشري، بل سيصبح أداةً بين يديه، فقوتنا ليست في سرعة إنتاج الكلمات، بل في قدرتنا على بث الحياة في كلماتنا، وجعل القارئ يشعر ويتأمل. لذا، على كُتابِنا أن يستخدموا أدوات الذكاء الاصطناعي كداعمٍ لتعزيز المحتوى والنصوص، وإنتاج نموذج كتابي ذي جودة ودقة عالية، مع الحفاظ على جوهر الإبداع الإنساني الذي لا يضاهى.